الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى صحابته الغر الميامين.
أيها الإخوة الكرام؛ لا زلنا في اسم المؤمن، في اللقاء السابق بينت بفضل الله عز وجل أحد معاني هذا الاسم، وأن المؤمن هو الذي يُؤَمِّن عباده من أن يُظلموا، وأن المؤمن هو الذي يُجير المظلومين من ظلم الظالم.
واليوم نتحدث عن معنى ثالث، المعنى الثالث كما قلنا في لقاء سابق: الإيمان هو التصديق، وأن اسم الله المؤمن يعني أن الله يُصَدّق وعده؛ أي يُحقِّقه.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾
وقوع وعود الله للمؤمنين الدنيوية والأخروية من لوازم اسم المؤمن:
كلمة مؤمن من التصديق، أي أن الله يُصَدِّق وعده، فإذا وعد المؤمنين بحياة طيبة فلابد من أن يعيشوا هذه الحياة الطيبة:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
فإذا عاش المؤمن حياة طيبة، معنى ذلك أن الله مؤمن، صدّق وعده، إذا قال الله عز وجل:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
فالمؤمن حينما لا يضلّ عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يخشى مما هو آت، ولا يندم على ما فات، هذا الذي حصل له بفضل اسم المؤمن، الذي صدّق الله وعده، الله عز وجل قال:
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾
أي إذا وعد المؤمنين بالنصر، زوال الكون أهون على الله من ألا يُحَقق وعوده للمؤمنين.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
وعدهم بالاستخلاف، وعدهم بالتمكين، وعدهم بالتطمين، وزوال الكون أهون على الله من ألا يُحَقق وعوده للمؤمنين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾
وعد نبيه ومن آمن معه بالجنة، فإذا دخل المؤمنون الجنة يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾ أي كنا في الدنيا وفعلنا في الدنيا أسباب دخول الجنة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ .
عدم تحقُّقِ بعض وعود الله سببُه عدمُ دفعِ ثمنِها:
أيها الإخوة؛
(( في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن الصحابة الكرام كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: شَهِدْنا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيْبَرَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ معهُ يَدَّعِي الإسْلامَ: هذا مِن أهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا حَضَرَ القِتالُ قاتَلَ الرَّجُلُ مِن أشَدِّ القِتالِ، وكَثُرَتْ به الجِراحُ فأثْبَتَتْهُ، فَجاءَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أرَأَيْتَ الرَّجُلَ الذي تَحَدَّثْتَ أنَّه مِن أهْلِ النَّارِ؟ قدْ قاتَلَ في سَبيلِ اللَّهِ مِن أشَدِّ القِتالِ، فَكَثُرَتْ به الجِراحُ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَا إنَّه مِن أهْلِ النَّارِ. فَكادَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ يَرْتابُ، فَبيْنَما هو علَى ذلكَ إذْ وجَدَ الرَّجُلُ ألَمَ الجِراحِ، فأهْوَى بيَدِهِ إلى كِنانَتِهِ ، فانْتَزَعَ مِنْها سَهْمًا، فانْتَحَرَ بها، فاشْتَدَّ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ ؛ قَدِ انْتَحَرَ فُلانٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا بلالُ، قُمْ فأذِّنْ: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وإنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ. ))
أي أحياناً مؤمن في الدنيا يصف لإنسان ما ينتظره لو تاب إلى الله، بعد حين يقول له: والله صدقت، والله أنا في جنة، والله كانت هموم كالجبال تجثم على صدري، فلما تبت إلى الله أُزيحت عني، أي قضية التصديق، يوم الأحزاب، الله عز وجل يقول:
(( عن عبد الله بن عمر أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثًا، قالَ: آيِبُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ حَامِدُونَ، لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَهُ. ))
وأعزّ جنده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، أي إذا تراءى لنا أن بعض الوعود لم تُحَقق لنا فلنعلم علم اليقين أننا السبب، ما قدمنا ثمن وعود الله عز وجل، وعود الله عز وجل لها ثمن، لكن كما قلت قبل قليل: زوال الدنيا بل زوال الكون أهون على الله مِن ألا يُحَقق وعوده للمؤمنين.
وعود الله دائماً محققة وإن لم تُحقق فنحن السبب:
أيها الإخوة الكرام؛ مرة عقب أحد الدروس التقيت مع إنسان شاب، قال لي: أنا مهندس خُيوط درست في أوروبا في رومانيا، وأنا موظف في معمل كبير في دمشق، لكنني أُصاب بالصرع، إما في مركبتي، وهناك خطر كبير، أو في السيارة العامة، أو في الطريق، أو في مكتبي، أو في البيت، وفي اليوم أو في الأسبوع عدة مرات، من ثلاث مرات إلى خمس مرات، قال لي: أنا أكاد أُسحق، لماذا أنا كذلك؟ طبعاً استقر في ذهني أن الصرع أذية في الدماغ، ومرض عُضال، لكنه أراد جواباً غير هذا الجواب، لماذا أنا كذلك؟ لماذا يفعل الله بنا هكذا؟ فالتقيت به في البيت، وشرحت له، لكنني قلت له: الله عز وجل يقول:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
فأصغى إليّ إصغاء يفوق حدّ الخيال، قال: ما معنى هذا الكلام؟ قلت: مستحيل وألف ألف مستحيل أن يسوق الله لعبد شيئاً يزعجه، أو يؤلمه ما دام مستقيماً على أمره، والدليل هذه الآية: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ لذلك بعد هذا الكلام اهتمّ اهتماماً كبيراً، وأخرج من جيبه ورقة، وبدأ يكتب، قال لي: ماذا تأمرني أن أفعل؟ ذكرت له أداء الصلوات بأوقاتها، غضّ البصر، ضبط اللسان، ضبط العين، ضبط الأذن، ذكرت له فيما أذكر قريباً من أربعين بنداً، كتبها كلها، من شدة ألمه من هذا المرض، هذا المرض كاد يحطمه، والله أنا بعد أن خرج شعرت أنني تورطت، كيف تورطت؟ لعلها أذية لا تُشفى، أنا وعدته أنه إذا استقام على أمر الله تزول هذه الأذية هكذا، فلي درس يوم الجمعة، أول جمعة يأتي قال لي: الحمد لله، هذا أول أسبوع في حياتي لم أُصَب بأية نوبة، والله كأنني ملكت الدنيا، قلت: يا رب تُسَلم، جاء الأسبوع الثاني قال لي: أيضاً هذا الأسبوع الآخر لم أصب بأية نوبة، أذكر أنه جاء أسبوع ثان، ثالث، رابع، وأنا لا أُصَدق من الفرح أن الذي ذكرته له مؤيد بكلام الله، الله عز وجل صدّق هذا الكلام، أي أبعد عنه هذه النوبات، في الأسبوع السادس لم يأتِ إلى الدرس، قلت: جاءته نوبة معنى ذلك، والله قلقت أشدّ القلق، لكن في الأسبوع السابع جاء، قال لي بالضبط: لا تقلق على مبدئك، أنا أخطأت مع الله، في هذا الأسبوع أخطأت، فجاءتني نوبة في الطريق، أي معنى مؤمن تأتي وعوده مُحققة، تأتي أفعاله مُصَدِّقة لوعوده، فإذا وعدك الله بحياة طيبة، وعدك برزق وفير، وعدك بحياة آمنة، وعدك بالسكينة، وعدك بالحكمة، هذه الوعود زوال الكون أهون على الله من ألا تُحَقق هذه الوعود، لكن إن لم تُحقَّق نحن السبب، يجب أن نتهم أنفسنا، الله غني عن تعذيبنا، والآية واضحة: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ .
أيها الإخوة؛ هذا معنى من معاني اسم الله المؤمن.
تثبيتُ الله لقوانين الكون يعطي الأمن والاطمئنان:
يوجد عندنا معنى آخر من الأمن، أي الله عز وجل يهبك الأمن، كيف؟ بحث طويل، يكفي أن خصائص المواد ثابتة تعطينا الأمن، ساكن ببيت في الطابق العاشر، والبناء من إسمنت وحديد، لو أن الحديد غيّر صفاته لانهار البناء، ما الذي يهبُك الأمن؟ أن الحديد خصائصه ثابتة، لأن الإسمنت السنتمتر المكعب يتحمل من قِوى الضغط خمسمئة وخمسين كيلو غرام، أما على قوى الشد لا يتحمل خمسة كيلو غرام، فلابد من إسمنت مسلح بالحديد، لو أن الحديد يُبَدل خصائصه لانهار البناء.
تشتري سبيكة ذهب تدخرها لأيام العوز، لو أن الذهب يُبَدّل خصائصه فقدتَ خمسمئة ألف ليرة، أو الآن مليون ثمن السبيكة تقريباً، أي ثبات الخصائص شيء رائع جداً، ثبات قوانين الكون، هناك شروق يومياً، لا يوجد يوم والله لا يوجد شمس اليوم، يا رب تبعث لنا الشمس، الشمس ثابتة، تأتي ثابتة، دورة الأفلاك، القمر، الشمس، الليل، النهار، خصائص المواد كلها ثابتة، خصائص البذور، تزرع مثلاً مادة تنتج مادة أخرى، مستحيل! ثبات القوانين، قوانين التمدد، قوانين السقوط، قوانين الانحلال الفيزيائي، كل القوانين ثابتة، لماذا هي قوانين؟ لأنها مطَّردة وشاملة، ثبات حركة الأرض والأفلاك، أي ممكن تقول: في عام ألفين وثمانين، وليس ثمانية، الشمس تشرق في السابع عشر من آذار الساعة الخامسة والثلاث دقائق، ما هذه الدقة؟ ما هذا الثبات في حركة الأرض والشمس؟
الآن الأرض تسير حول الشمس بمسار إهليلجي، تمام، ما الذي يُبقيها على مسارها؟ المسار إهليلجي، أي هناك قطر أكبر، وقطر أصغر، ومن معلوماتكم البديهية أن قانون الجاذبية كلما قلَّت المسافة ازداد الجذب، فإذا وصلت الأرض إلى القطر الأصغر قلَّت المسافة، إذاً هناك احتمال أن تنجذب الأرض إلى الشمس، وإذا انجذبت إلى الشمس تبخرت في ثانية واحدة، انتهت حياتنا، ما الذي يُبقي الأرض على مسارها؟ أن الله يرفع سرعتها، في هذا المكان ترتفع السرعة، ينشأ من رفع السرعة قوة نابذة أقل تكافئ القوة الجاذبة فتبقى على مسارها:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾
عن مسارها، الآن الأرض تابعت سيرها، ووصلت إلى القطر الأطول، ما دام السرعة زادت، وقوة النبذ زادت، والمسافة طالت إذاً تضعف الجاذبية، هناك احتمال أن تُتابع الأرض سيرها، وتتفلت من جاذبية الشمس، فإن تابعت سيرها وتفلتت من جاذبية الشمس دخلنا في الصفر المطلق مئتين وسبعين تحت الصفر، انتهت الحياة، تنتهي الحياة إذا انجذبت إلى الشمس، وتنتهي الحياة إذا تفلتت من جاذبية الشمس، ما الذي يحصل هنا؟ يخفض الله سرعة الأرض، فإذا انخفضت هذه السرعة نشأ من انخفاض السرعة قوة ناذبة أقل تُكافئ القوة الجاذبة الأقلّ فتبقى على مسارها: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ بعض العلماء قال: لو أنها تفلتت، وأردنا أن نعيدها إلى الأرض ماذا نحتاج؟ قال: نحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي، قطر كل حبل خمسة أمتار، والحبل الفولاذي الذي قطره خمسة أمتار يتحمل من قوى الشد مليوني طن، أي الأرض مرتبطة بالشمس بمليون ضرب مليونين من الأطنان، من أجل أن تنحرف الأرض في سيرها حول الشمس ثلاثة ميليمتر كل ثانية، هذا الانحراف ثلاثة ميليمتر كل ثانية يُشكل مساراً مغلقاً، لذلك: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ أما لو زرعنا هذه الحبال على سطح الأرض حتى نعيدها إلى حظيرة الشمس، المفاجأة أن بين كل حبلين مسافة حبل واحد، نحن أمام غابة من الحبال، لا يوجد زراعة، ولا يوجد إبحار، ولا يوجد سفن، ولا يوجد طائرات، ولا يوجد مواصلات، ولا يوجد شيء إطلاقاً، لذلك قال تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)﴾
رفعها بعمد لا ترونها، قوى التجاذب أعمدة، لكن لا نراها، بل نمشي خلالها.
ثبات حقائق القرآن على مدى العصور سببٌ للأمن العقدي:
لذلك أيها الإخوة؛ الله عز وجل من أسمائه المؤمن، أي وهَبَ الأمن، أمّنك بحركة الأفلاك، أمّنك بثبات خصائص المواد، أمّنك بالنظم الثابتة، أمّنك بثبات القوانين هذا كله يهَب الأمن، طبيب يدرس في أمريكا، يُعَيَّن بعقد عملٍ في الخليج، يأتيه مريض من الهند، يستخدم دواء صنع في الصين، كيف هذا؟ لولا أن بنية الإنسان التشريحية واحدة، من آدم إلى يوم القيامة، أي مكان الشريان بالميليمتر، مكان العصب، لو كل إنسان له بنية تشريحية خاصة لم يكن هناك طب أساساً، ما أسباب وجود علم الطب؟ وجود بنية تشريحية ثابتة، وخصائص فيزيولوجية ثابتة في الإنسان، لولا ثبات خصائص الإنسان، ثبات البنية التشريحية، ثبات الوظائف الفيزيولوجية ما كان هناك طب أساساً.
أحياناً يوجد عندك أمن عقدي، هذا شيء دقيق، مرة يوجد رئيس وزارة ببلد أوروبي انتحر، الحقيقة مِن أعرقِ الأُسَر، وما اتُّهِم لا بفضيحة أخلاقية، ولا بفضيحة مالية، وانتحر، أكثر من مئة صحفي بحثوا عن أسباب انتحاره، ثم تبين لواحد منهم كان يؤمن بأنه لا إله، في السبعين شعر أن الإله موجود فاحتقر نفسه كيف اعتقد عقيدة لسبعين عاماً لا أصل لها، فانتحر.
أنت كمؤمن، كمسلم، أيّة آية في كتاب الله لا يمكن أن يظهر حدث في الأرض ينقض هذه الآية، عندك أمن عقدي، لأنه كلام الله، العلم تطورَ تطورا مذهلاً، في الخمسين عامًا الأخيرة التطور يساوي ما كان من تطور من آدم إلى قبل خمسين عاماً، الآن يسمون التطور بحركة انفجارية، كنا بسلسلة حسابية، بسلسلة رياضية، الآن بسلسلة انفجارية، تطور مذهل، ومع ذلك هل ظهر شيء في هذا التطور ينقض القرآن الكريم؟ هل رأيت آية لم تقع؟ هل رأيت حديثاً صحيحاً لم يقع؟ فأنت يوجد عندك ما يسمى بالأمن العقدي، أنت قرأت كتاب الله، من عند خالق الأكوان، وهذا الكتاب هو الذي أعطاك هذا الأمن، أي لا يوجد بحياتك مفاجآت تُزلزل، كم إنسان كان يعتقد مذهبًا ثم سقط هذا المذهب؟ ينهار الإنسان معه، مبدأ اعتنقته كل حياتك تكتشف أنه باطل، لا أصل له، هذه مشكلة كبيرة، المؤمنون والفضل لله الكبير معافون من هذا الاضطراب، ما في كتابهم لا يمكن أن يُنقَض، بل إن كل الأحداث التي تأتي تؤكّد ما في كتابهم.
أي الاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار حرّم الخمر، لماذا حرّم الخمر؟ لأنها تضرّ بالمجتمع، الآن هناك اتجاه بأمريكا بفصل الطلاب عن الطالبات في الجامعات، لا لأسباب دينية إطلاقاً، لأسباب اجتماعية، ولأسباب علمية، فلذلك الآن العالم يقترب من الدين لا عن عبادة، ولكن عن مصلحة، لذلك أيها الإخوة؛ معنى أن الله المؤمن منحك أمناً عقدياً.
الله مؤمن بذاته العلية وبصفاته المطلقة وبأفعاله الحكيمة:
يوجد عندنا شيء آخر أن الله مؤمن بذاته العلية، مؤمن بصفاته المطلقة، مؤمن بأفعاله الحكيمة، لذلك يسوق الشدائد لعباده كي يحملهم على التوبة والصلح معه، كي يسلموا ويسعدوا، أحياناً يقول لك إنسان: أنا حسب كلامك أبقى معك؟ أنت تخاف ألا يكون عندك إمكانيات تلبي له طموحاته، تقول له: لا، ابحث عن عمل آخر، لست مؤمناً بذاتك أنك تستطيع أن تحقق طموحات هذا الإنسان، تقول: لا، ابحث عن عمل آخر، أنا عندي هذا الراتب، أكثر لا يوجد، لكن إذا شخص أمواله فلكية، وإنسان رآه أهلاً أن يكون معه، قال له: كل طموحاتك عندي، فالله معنى مؤمن أي مؤمن بذاته العلية، مؤمن بصفاته الكاملة المطلقة، مؤمن بأفعاله الحكيمة.
التطبيق العملي لاسم المؤمن:
أيها الإخوة؛ لكن الذي يعنينا من هذا الدرس التطبيق العملي.
1 – مطابقة الأفعال للأقوال:
أيها الإخوة؛ إن أردت أن تتخلق بهذا الكمال يجب أن تأتي أقوالك مصدِّقة لواقعك، أي ألا تكذب، الكذب يُعطي الناس القلق منك، تكذب، ينبغي أن تأتي أقوالك مُصدِّقة لواقعك، وينبغي أن تأتي أفعالك مُصدِّقة لأقوالك، حينما لا يجد من حولك مسافة بين أقوالك وأفعالك، وبين أقوالك وواقعك يطمئنون لك، فلان لا يكذب، شيء مهم جداً، لمجرد أن يكذب الإنسان أفقد مَن حوله الأمن، يقولون لك: غدّار، له موقف مُعلَن، موقف مُبَطن، له ظاهر، له باطن، له شيء يقوله، وهو غير صادق به، وشيء يُخَطط له، أما حينما تستوي أقوالك مع أفعالك، وتأتي أفعالك مصدقة لأقوالك منحت مَن حولك الأمن، وتخلّقت بكمال الله.
2 – أن تهَب الناس الأمن والاطمئنان:
شيء آخر؛ يجب أن تهب الأمن لمن حولك، أنت طبيب، محامٍ، مُدَرّس، مهندس، مدير جامعة، مدير مستشفى، يجب أن تكون واضحاً جداً، وضوحك يهب الأمن لمن حولك، أما له ظاهر وباطن، غدّار، له أساليب ملتوية:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
أنت بهذا تُقلِق مَن حولك، فإذا كنت مؤمناً، وإذا كنت مؤمناً باسم المؤمن، اسم الذات العلية المؤمن يجب أن تهَب مَن حولك الأمن بالوضوح وبالقواعد الثابتة، أنت حينما تضع قواعد للتعامل معك، أحياناً يقول لك إنسان: هل أنت متأثر مني؟ لا، إن كنت متأثراً منك أقول لك مباشرة، أنا لا أسلك أساليب ملتوية، مادمت ساكتاً فأنا راضٍ عنك، انتهى، منحته الأمن، عندك موظف، عندك ابن، عندك زوجة، تقول لها: أريد أن أطلقك، إذا كنت لست ناوياً أن تطلقها أرحها، طمئنها، أعطِها الأمن، لا يعطيها الأمن، دائماً يجعلها في حالة قلق، فإذا كنت مؤمناً، وتخلّقت بكمال الله يجب أن تمنح مَن حولك الأمن.
لا تكِل بعدة مكاييل، ما من عمل أحقر عند الله وعند الناس مِن أن تكيل بمكيالين، اجعل المكيال واحداً، لمجرد أن تتوهم أن لك ما ليس لزوجتك، أو أن عليها ما ليس عليك، فأنت عنصري، كِلت بمكيالين، تتحدث عن أمها كما تشاء، وإن تكلمت كلمة عن أمك تُقيم عليها الدنيا، هذا كيل بمكيالين، لا تكل بمكيالين، لا تُحاسب قبل أن تبيّن، بيّن ثم حاسب، يوجد قاعدة: لا معصية من دون تكليف، أي هناك شيء لم يعجبه من زوجته فأقام عليها الدنيا، ما بيّن لها، بيِّن لها ما تحب وما تكره، بيّن لها أن هذا العمل لا يجوز، لا أقبله منك.
الآن مِن أكمل هذا الموقف أشعِرْ مَن حولك، أو أشعِر كل واحد حولك أنه أقرب الناس إليك، وهذا من صفات النبي عليه الصلاة والسلام، ما من صحابي إلا كان يشعر أنه أقرب الناس إلى النبي، أعطِ الأمن لمن حولك، شرُّ الخَلق مَن اتّقاه الناس مخافة شره.
أيها الإخوة الكرام؛ هذا اسم عظيم اسم المؤمن، مؤمن بذاته، منحك الأمن، منحك المصداقية، حقق كل وعوده لك، عليك أنت أيضاً أن تتخلق بهذا الكمال العظيم، فتكون واضحاً، وتضع قواعد ثابتة للتعامل معك دون أن تكيل بمكيالين، وأن تُشعر من حولك أنه قريب منك.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق